الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد ن يذكر أو أراد شكوراً. والحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله واعتبروا بما ترون وتسمعون. تمر الشهور بعد الشهور والأعوام بعد الأعوام ونحن في سبات غافلون. ومهما عشت يا ابن آدم فإلى الثمانين أو التسعين. وهبك بلغت المئتين. فما أقصرها من مدة وما أقله من عمر. قيل لنوح عليه الصلاة والسلام، وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً: كيف رأيت هذه الدنيا؟ فقال: كداخل من باب وخارج من آخر، فاتقوا الله أيها الناس. وتَبَصّروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم. وكل يوم يمر بكم فإنه يبعدكم عن الدنيا ويقربكم من الآخرة. فطوبى لعبد اغتنم هذه الأيام بما يقرّبه إلى الله. طوبى لعبد شغلها بالطاعات. واتعظ بما فيها من العظات. تنقضي بها الأعمار (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور:44] عباد الله: جمعتكم هذه هي آخر جمعة من هذا العام الهجري فبعد أيام قلائل سيطوى سجله عمله، فهنيئاً لمن أحسن فيه واستقام.
وعابرُ السّبيلِ يتقلّلُ من الدّنيا، ويقصِّرُ الآمالَ فيها، ويستكثرُ من زادِ الإيمانِ والطّاعاتِ، ويكون همُّه المسابقةَ إلى الفضائلِ والخيراتِ؛ حالُه في ذلك كحالِ الصّحابيِّ الجليلِ معاذ بن جبل رضي الله عنه الّذي قال وهو على فراش الموت- كما عند أحمد في (الزّهد)-: " اللهمّ إنّك تعلمُ أنّي لم أكُنْ أُحبُّ البقاءَ في الدُّنيا ولا طُولَ المُكْثِ فيها لجَرْيِ الأنهارِ، ولا لغرسِ الأشجارِ، ولكنْ كنتُ أحبُّ البقاءَ لمكابدةِ اللّيلِ الطويلِ -يعني: بالقيام-، وظمَأ الهواجِرِ في الحرِّ الشديد ِ-يعني: بالصِّيام-، ولمزاحمةِ العلماءِ بالرُّكَبِ في حِلَق الذِّكرِ ". ولئن كان أهلُ الأموالِ والتِّجاراتِ يقومون في آخرِ كلِّ عامٍ بعمَلِ تصفيةٍ وجَرْدٍ للحساباتِ ؛ لينظُرُوا الطرقَ الّتي ربِحُوا بها فيتوسّعُوا فيها، والطرقَ الّتي خسِرُوا بها فيجتنِبُوها؛ فما أحرانا ونحن نودِّعُ هذا العامَ: أن نقفَ مع أنفسِنا وقفةَ محاسبةٍ نستجلي فيها عامَنا؛ كيف أمضيناهُ؟ ووقتَه كيف قضيناهُ؟ وننظر في كتاب أعمالِنا علامَ طويناهُ؟ وماذا أودعناهُ؟ حتّى نبصر ما أسلفناهُ، ويتبيّن ما قدمناهُ؛ فإن كان خيرًا حمِدْنا اللهَ وشكرناهُ، وإن كان شرًّا تُبْنا إلى اللهِ واستغفرناهُ.
6/ والمسلم الفطِن -عند دخول العام الجديد- يفكر ويخطط -إن أطال الله في عمره- لمجمل أعماله التي سيقوم بها خلال العام، فإنه ثبت بالتجربة أن مِن أهم أسباب النجاح حسنُ التخطيط للمهام التي يريد العبدُ القيام بها، ومِن أعظم أسباب الفشل: سوء التخطيط والترتيب، وقد قيل: الفشل في التخطيط هو التخطيط للفشل، وقبل ذلك وبعده: الاستعانة بالله، وسؤاله التوفيق، لكن لا بد من فعل الأسباب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((استعن بالله ولا تعجز؛ ولا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعـل)) ( [5]) ، فعندما تُوفَّق لترتيب أهدافك وأعمالك، وتستعين بربك؛ فسترى نتائجَ مذهلة، والعكس صحيح، وتأمل في تلك الآية التي يقرأها كثيرٌ منا يوم الجمعة، وربما لم يقف معها جيداً: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28] فتأمل كيف ذم اللهُ هذا النوع مِن الناس الذين تذهب أعمارُهم سدى، وأوقاتهم تنفرط عليهم مِن غير فائدةٍ دينية أو دنيوية. وقد أفادت الآية الكريمة -أيضاً-: أن ذِكر الله عز وجل من أعظم ما يستعان به على البركة في الوقت، قال شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "إذا رأيتَ وقتك ينفرط، والزمن يمضي من دون إنتاج؛ ففتش عن قلبك، وعن موضع الذِّكر منه، فإن الأمر خطير" ( [6]).
وويل لمن أساء وارتكب الإجرام. هلم نتساءل عن هذا العام كيف قضيناه؟ ولنفتش كتاب أعمالنا كيف أمليناه. فإن كان خيراً حمدنا الله وشكرناه. وإن كان شراً تبنا إلى الله واستغفرناه. كم يتمنى المرء تمام شهره. وهو يعلم أن ذلك يَنْقصُ من عمره. وأنها مراحل يقطعها من سفره. وصفات يطويها من دفتره. وخطوات يمشيها إلى قبره. فهل يفرح بذلك إلا من استعد للقدوم على ربه بامتثال أمره. عباد الله: ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع وتغرب. ففي طلوعها ثم غروبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار. وإنما هي طلوع ثم غروب. ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عاماً بعد عام. فأنتم تودعون عاماً شهياً عليكم وتستقبلون عاماً جديداً مقبلاً إليكم. فبماذا تودعون العام الماضي وتستقبلون العام الجديد. فليقف كل منا مع نفسه محاسباً ماذا أسفت في عامي الماضي. فإن كان خيراً ازداد وإن يكن غير ذلك أقلع وأناب. فإنما تمحي السيئة الحسنة. قال –صلى الله عليه وسلم-: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" ليحاسب كل منا نفسه عن فرائض الإسلام وأدائها. عن حقوق المخلوقين والتخلص منها. عن أمواله التي جمعها من أين وجاءت وكيف ينفقها؟ أيها الناس: حاسبوا أنفسكم اليوم فأنتم أقدر العلاج منكم غداً؛ فإنكم لا تدرون ما يأتي به الغد.
2/ المسلم ينظر إلى بدية العام على أنه مرحلة من مراحل العمر، آذنت بطوْيِ صفحةِ عام، وفتْح صفحة عامٍ جديد، وكل هذا يشير إلى حقيقةِ مهمةٍ أخرى خاصة، وهي أن العبدَ يزداد بذلك قرباً من أجله، وبعداً عن دنياه، إلى أن يَصِل المحطة النهائية له في الدنيا، ثم ينتقل بعدها إلى دار أخرى. فهذه سُنّة الله في الحياة، والعاقل من جعل ذلك فرصة للتأمل فيما أمضاه من العمر! ماذا قدّم فيه لدينه ودنياه؟ وهل يسرُّه أن يلقى ربه اليوم بصحفية الزمن الماضي؟! 3/ مُضِيُّ عا م -أيها المسلمون- يعني مُضيَّ أكثر من نصف مليون دقيقة من حياة كل واحدٍ منا! نبَضَ القلبُ في هذا العام قرابة 40 مليون نبضة، وزفرت النفس 11 مليون زفرة! مضتْ هذه الدقائق وتلك السويعات بما أُودِع فيها مِن خيرٍ وشر، فالموفَّق مَن ندم على تفريطه بكل ساعةٍ بل بكل دقيقة، بل بكل ثانية، والمغبون من لم يكتَرث بذلك ولم يُلقِ له بالاً، يقول الحسن البصري رحمه الله: "إن المؤمن قوّامٌ على نفسه، يحاسِب نفسَه لله، وإنما خفَّ الحسابُ يومَ القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسَهم في الدنيا، وإنما شق الحسابُ يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة" ( [1]). أيها المؤمن المبارك.. إن الشعور بأن الساعات والدقائق جزء من العمر؛ دافِعٌ للحرص على اغتنامها، وبذلك يوفِّق الله مَن شاء من الناس للغيرةِ على أوقاتهم كما يَغار أهلُ الدرهم والدينار على أموالهم، والحرص على المحافظة عليها، لئلا يضيع منها شيءٌ في غير فائدة، وإلا لو تأملتَ فكم في الدقيقة من تسبيحة، وتهليلة، وتحميدة، وتكبيرة؟ كم فيها من آية تتلى؟!
فاللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَارِنَا أَوَاخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ لِقَائِكَ. اللّهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبيِّنا محمّد، وعلى آلِه، وصحبِه أجمعين. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للّه ربّ العالمين بقلـم/ نـور الـدين مسـعي الباحث بإدارة الإفتاء
كيف يفرحُ من عمرُه يقودُه إلى أجلِه، وحياتُه تقودُه إلى موتِه؟! ". وكان يزيدٌ الرقاشيُّ يتمثّل كثيراً بهذا البيت: إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا... وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ كان السلف الصالحون رضي الله عنهم أجمعين يجعلون من مرور الأيامِ والشّهورِ والسنين مدّكراً ومزدجراً؛ فيحملهم ذلك على عمارتِها بالطّاعةِ والأعمالِ الصّالحةِ؛ لتكون لهم مدّخراً، وقد رُوي عن الحسن رحمه الله أنه قال: " ما منْ يومٍ ينشقُّ فجرُه إلا نادَى منادٍ من اللهِ: يا ابنَ آدم! أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِك شهيدٌ؛ فتزوَّدْ منّي بصالحِ العملِ؛ فإنّي لا أعودُ إلى يومِ القيامةِ ". ومن هنا كان أبو حازم رحمه الله تعالى يقول: " عَجبًا لقومٍ يعملون لدارٍ يرحلون عنها كلَّ يومٍ مرحلةً، ويدَعون أن يعمَلوا لدارٍ يرحلُون إليها كلَّ يومٍ مرحلة ً! ". ونحنُ إذ نودِّعُ عاماً من أعمارِنا قد تصَرَّمَت أيامُه، وقُوِّضَت خِيامُه؛ حقيقٌ بنا أن نستيقظَ من رقدتِنا ، وننتبهَ من غفلتِنا ، ونعرفَ حقيقةَ هذه الدُّنيا؛ الّتي بهمومِها ومشاغلِها غمرَتْنا، وفي أوحالِها وفتنِها أغرقَتْنا؛ فنكون فيها كما قال نبيُّنا r لابن عمرَ رضي الله عنهما-فيما رواه البخاريّ-: « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » ، وكان ابن عمر يقول: " إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصّباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظرِ المساءَ، وخُذْ من صحتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك ".
لنا في سلفِنا الصّالحين، من الصّحابةِ والتّابعين، والعلماء الربّانيّين خيرَ أسوةٍ ؛ فكَمْ وكمْ خَلَوْا بأنفسِهم فحاسبُوها، وعاتبُوها وأنّبُوها؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتُ عمرَ بن الخطّابِ لمّا دخل بستانًا من البساتينِ وما عنده أحدٌ وقف مع نفسِه يناديها قائلاً لها: " عمرُ أميرُ المؤمنين! بخٍ بخٍ!! ، واللهِ يا ابنَ الخطّابِ لتتقينَّ اللهَ أو ليُعذِّبَنَّك َ". ويقولُ مالكُ بن دينار رحمه الله: " رحِمَ اللهُ عبداً قال لنفسِه: ألستِ صاحبةَ كذا، ألستِ صاحبةَ كذا ، ثمّ زَمَّها ، ثم خَطَمَها ، ثمّ ألزَمَها كتابَ اللهِ عزّ وجلّ فكانَ لها قائداً ". وهذا أبو العبّاس الموصليُّ رحمه الله يقولُ لنفسِه: " يا نفسُ لا في الدُّنيا مع أبناءِ الملوكِ تتنعّمينَ، ولا في طلبِ الآخرةِ مع العبّادِ تجتهدينَ؛ كأنّي بكِ بين الجنّةِ والنّارِ تُحبَسِينَ؛ يا نفسُ ألا تَسْتَحِينَ؟! " وأنت أيّها الأخ الكريمُ! حاسِبْ نفسَك في ختامِ هذا العامِ، وسلْ نفسَك عَنْ فَرَائِضِ اللهِ تَعَالَى هَلْ أَدَّيْتَهَا؟ وعن حدودِ اللهِ هل اتّقيتَها؟ وَعَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ هَلْ وَفَّيْتَهَا؟ مَا حَالُكَ مَعَ الصَّلاَةِ؟ هَلْ تُؤَدِّيهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا؟ هَلْ مَا زِلْتَ مُقَصِّراً فِي حُضُورِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَشهودِها؟ أَمْ مَا زِلْتَ غَافِلاً عَنْ تِلاَوَةِ كِتَابِ اللهِ جلّ وعلا؟، وَقَدْ كُنْتَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَيْهِ مُقْبِلاً؟ مَا حَالُكَ مَعَ النَّوَافِلِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، والسّننِ والمندوباتِ؟ الّتي هِيَ عَلاَمَةُ الإِيمَانِ، وَطَرِيقُ مَحَبَّةِ الرَّحْمَنِ.
[الإسراء 12: 15]