"وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ" (خطبة) الحمد لله الذي أمر خليله ببناية البيت الحرام، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وخيراته الجسام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مبرأةً من الشركِ والشك والجهل وتطرق الأوهام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضلُ من صلى وصام وطاف بالبيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، والأئمة الأعلام، هداة الأنام وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. عباد الله: في هذه الأيام تتوجه القلوب وترنو الأبصار وتتأجج الأشواق ويزداد الحنين، إلى البيت العتيق والمشاعر المقدسة إلى عرفة والمزدلفة، ومنى والملتزم والحطيم وزمزم. إنها المشاعر التي حركت المشاعر فنطق وجدان الشاعر: أشواقنا نحو الحجاز تطلعت كحنين مغترب إلى الأوطان إن الطيور وإن قصصت جناحها تسمو بفطرتها إلى الطيران وقال الآخر: يا راحلين إلى منى بقيادي هيجتمُ يوم الرحيل فؤادي سرتم وسار دليلكم يا وحشتي الشوق أقلقني وصوت الحادي إنها الأرض المقدسة والبلد الأمين التي من أجلها تفطرت أكباد وسالت دموع وضحى المحبون بأهلهم وولدهم ورباعهم، شطت بهم الديار وتناءت بهم الأقطار ومع ذلك جاؤوا يقطعون الفيافي والقفار، طلباً لرضا الغفار ليؤدوا فريضة من فرائض الله تعالى.
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ( وأذن) عطف على وطهر بيتي. وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأن ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان. والتأذين: رفع الصوت بالإعلام بشيء. وأصله مضاعف أذن إذا سمع ، ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر. وأذن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل ، أي أكثر الإخبار بالشيء ، والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار. ولكونه بمعنى الإخبار يعدى إلى المفعول الثاني بالباء. والناس يعم كل البشر ، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك. [ ص: 243] والمراد بالحج: القصد إلى بيت الله. وصار لفظ الحج علما بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك. ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلا إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس. فهذه أصل في سنة المؤثرات لأهل المقصد النافع. وفي تعليق فعل ( يأتوك) بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحج كل عام يبلغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية.
وتنكير ( منافع) للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية لأن في مجمع الحج فوائد جمة للناس ؛ لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج ، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحا في الدنيا بالتعارف والتعامل. وخص من المنافع أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. وذلك هو النحر والذبح للهدايا. وهو مجمل في الواجبة والمتطوع بها. وقد بينته شريعة إبراهيم من قبل بما لم يبلغ إلينا. وبينه الإسلام بما فيه شفاء. وحرف ( على) متعلق بـ ( يذكروا). وهو للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الملابسة والمصاحبة ، أي على الأنعام. وهو على تقدير مضاف ، أي عند نحر بهيمة الأنعام أو ذبحها. و ( ما) موصولة ، و من بهيمة الأنعام بيان لمدلول ( ما). والمعنى: ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام. وأدمج في هذا الحكم الامتنان بأن الله رزقهم تلك الأنعام. وهذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها ، وفي ذلك سد لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم. ولذلك فرع عليه فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير. [ ص: 247] فالأمر بالأكل منها يحتمل أن يكون أمر وجوب في شريعة إبراهيم - عليه السلام - فيكون الخطاب في قوله ( فكلوا) لإبراهيم ومن معه.
ومن دلالة هذه الكلمة أيضاً أنه ينبغي أن نعولم شعيرة الحج وهذا الذي يحدث الآن والحمد لله عندما تنقل شعائر الحج للعالم كله ليرى حقيقة الحج وأنه توجه إلى بيت واحد وقبلة واحدة وتعظيم لشعائر الله سبحانه وتعالى كما أمر الله سبحانه وتعالى من عهد ابراهيم عليه الصلاة والسلام إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إظهاراً للتوحيد، عرفة، حتى يقول قائل أنا تأملت في عرفة، الناس يخرجون من الحج ويتركون الحرم والمطاف والمقام ويذهبون إلى عرفة أرض لا يوجد فيها أي مَعْلَم مقدّس، جرداء، إنما يقولون لا إله إلا الله، قال إشارة إلى التوحيد الخالص لأن الحج لُبُه هو التوحيد. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الموحدين وأن يرزقنا اتّباع سيد المرسلين. [1] عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له أذن في الناس بالحج ، قال: رب وما يبلغ صوتي ؟ قال: أذن وعلي البلاغ. قال فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق ، فسمعه من بين السماء والأرض ، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون الراوي: قابوس بن أبي ظبيان المحدث: ابن حجر العسقلاني – المصدر: فتح الباري لابن حجر – الصفحة أو الرقم: 3/478 – خلاصة حكم المحدث: إسناده قوي islamiyyat مزيد من المقالات بواسطة »